Skip to main content

التجربة السورية

التجربة السورية (18 – 25)

الحرية قرار ذاتي

 

كسوري عاش معظم حياته في سوريا (ما عدا 7 سنوات في اليابان و5 سنوات في ماليزيا) لا يمكن اعتبار العيش في سوريا تجربة. لكن كوني خرجت من سوريا في العام 2006 قبل الثورة وعدت مع انتكاستها فالتجربة السورية ماقبل النصر وحتى النصر هي تجربة غنية خصوصاً بعيون شخص عاد ليعيش هذه التجربة بعد غياب 12 عاماً في ماليزيا واليابان.

 

في العام 2018 وبعد تدخل روسيا وحزب الله وإيران وأتباعها بشكل أكبر ومع تصاعد القصف والبراميل وتخاذل الداعمين للثوار، بدأ النظام يستعيد المناطق السورية تباعاً. وبدأ يدفع الثوار والمطلوبين من كل المناطق للتجمع في إدلب وريفها منقسمين مابين نصرة وأحرار وفصائل عديدة تتجمع حيناً وتتصارع حيناً وتغادر مناطقها حيناً وفق تفاهمات وتصالحات.

 

على صعيد آخر بدأ النزوح الجماعي للكفاءات بين مطلوبين للاحتياط وبين وضع اقتصادي وأمني سيء، وألمانيا تفتح الباب على مصراعيه وتركيا تسهل. وكانت هناك أخبار الكيماوي في دوما ومن ثم انهزام الفصائل وإخراجها نحو إدلب .... كنت في سنتي الخامسة في ماليزيا وأحسست أنني قد تعلمت كل ما أريد أن أتعلمه حول التجربة الماليزية من جهة، ومن جهة أخرى كنت قد بذلت جهوداً كبيرة في البحث والعمل على تطوير بعض المشاريع لكن بدأت أحس بالتمييز كوني أجنبي. كانوا دائماً يكررون أنهم لا يمكن أن يجعلوا أجنبياً مديراً لمشروع لأنه يمكن أن يغادر، بالحقيقة أحد مشاريعي كان يتم تحويله لمشروع استثماري عبر الحاضنة والمسرع الجامعي، لكن لم أكن أستطيع أن أكون مديراً للفريق، لم يكن معي مشرف ماليزي ولم يكن الطلاب قادرين على المضي قدماً. ضغطهم وحذرهم الزائد دفعني لتحقيق نبوءتهم. أحسست بحاجتي لأغادر. أضف لذلك كان لدينا عميد متغطرس مزعج حل محل عميد آخر سابق كان لطيفاً وكان الجديد يضيق على الأجانب. الحقيقة لم أكن بخطر فكوني حصلت على تمويل من وزارة التعليم الماليزية لمشروعي، والمشروع مدته سنتان – أدى ذلك لحصولي على عرض جديد offer letter بتمديد لعقدي لمدة ثلاث سنوات أخرى. لكن كنت قد اتخذت قراري. فقد كانت هذه السنة الخامسة لي والخمس سنوات في ماليزيا قد مرت وهو ما كنت أخطط له. لم يكن يوماً موضوع الجنسية غير السورية يعنيني بشدة. بل لو بحثتم في جنبات روحي لوجدتم أن أحد أسباب اختيار اليابان وماليزيا هو صعوبة الحصول على الجنسية. لم تكن منحتي تفرض التزاماً لكن كونني أخذت منحة مخصصة للسوريين كان عندي شعور بضرورة نقل ما تعلمته للسوريين وخدمة البلد. صحيح أن فكرة الأمة الإسلامية الواحدة وخدمة ماليزيا مثل خدمة سوريا كانت يمكن أن تنفع لتخدير أو إراحة الضمير لكن لم يكن ذلك كافياً لي في الحقيقة.

 

اختبار ماقبل العودة:

 كان تجديد جواز سفري قريباً أثناء هذه المرحلة، كان القرارات الحكومية حينها أن من عليه شيء أمني أو مطلوب للاحتياط أو الجيش يأخذ تجديد سنتين. أما من أموره سليمة عندهم يمكن أن يجدد ست سنوات. كان هذا اختباراً جيداً ففي النهاية في سوريا أنت متهم دائماً، لا تعلم إن كنت قد كتبت شيئاً على الفيس أو تكلمت بشيء أو كتب أحدهم بك تقريراً لتجد نفسك مطلوباً. قدمت طلب التجديد في سوريا وجاءت الموافقة سنتين فقط (يا للهول)..... إذا هناك أمر .... طلبت من الأهل التأكد من السبب فأنا قد دفعت البدل النقدي لخدمة الجيش ولا يمكن أن يكون هذا السبب. بعد المراجعة تبين أن السبب هو أن الحكومة قررت أن تضع منعاً على كل الموظفين خارج البلد. وأنا كنت موظفاً في جامعة دمشق. لكنني كنت مستقيلاً... وبناء عليه تقدم والدي باعتراض مرفق بقرار الاستقالة وحصلت على الموافقة للتجديد ست سنوات. الهاجس الأول تبدد. وقبل نهاية العام أخبرتهم بأنني أفكر بالعودة وعدم تجديد العقد. كان العرض الجديد عقداً لثلاث سنوات واتصل بي العميد ليقنعني ألا أغادر لكن قراري كان العودة إلى سوريا لثلاثة أسباب:

1- أخواي أصبحا خارج سوريا وبقي أهلي وحدهم ولابد من وجودي بجانبهم ولو من بعيد عند الطوارئ فقد بدأت سنهما تزداد وصحتهما تسوء رويداً رويداً. وكان وجودي مهما الحقيقة فقد ساءت صحتهما كثيراً العام الماضي والحمد لله الذي مكنني من دعمهما قدر المستطاع. اليوم الوضع أفضل ولله الحمد.

2- ابنتي لا تحس باي انتماء لسوريا ولا تعرف أحداً من عائلتها إلا عبر شاشة الموبايل. المدارس في ماليزيا إما ماليزية تضيع الهوية العربية فيها، والتعليم فيها باللغة الملاوية. الخيار الآخر هو المدارس الدولية، وهذه فيها جنسيات مختلفة مم سيرسخ فقد الهوية بشكل أكبر. هذا أهم ما كان يعاني منه بعض الزملاء مع أبنائهم.

3- سوريا بدأت تخلوا أو لنقل هناك نقص كبير في الكفاءات. وأنا أعتبر نفسي كفاءة (نوعاً ما يعني – دكتوراة من اليابان وأبحاث... لا بأس) ويجب ملء الفراغ .... ويجب أن نحافظ على مستوى تعليمي في الجامعات ولا نتركها لبعض من لا يجد سبيلاً للسفر ليس لأنه وطني بل لأنه لا يمكن قبوله. ليس الكل كذلك فهناك عدد لا يستهان به بقي لأسباب تشبه أسبابي وهم من أفضل الدكاترة والمدرسين لكن بالمقابل يوجد كثيرون ممن أخذوا الدكتوراة بطرق لا يعلم بها إلا الله.

 

استخرت وشاورت (كثيرون لم يشجعوني لأسباب مثل: العين لا تقاوم المخرز والعالم كله تآمر على سوريا وثورتها وبسبب الوضع الاقتصادي الذي بدأ بالتدهور والناس تخرج، أنت تريد أن تعود؟؟؟!!!، مثلك سيُحارب ولن يسمحوا لك بالعمل وقد تنتهي في أحد السجون أو القبور الجماعية .... إلخ. من أهم ميزات الشعب السوري التثبيط – الخوف – الأحكام المسبقة ... لكن للأمانة البعض شجعني باعتبار أنني أملك رسالة قد أساهم من خلالها بحفظ وطن وأبنائه، أحدهم قال لي توكل على الله هو ثغر العلم ولو براتب يعادل ثلث ما تأخذه في ماليزيا.) توكلت وعدت قبل بداية العام الدراسي 2018 – 2019 بأيام. مجدداً مبدأ: من ترك شيئأ لله عوضه الله خيراً منه.

أيضاً أحد أسباب العودة وقتها هو الحديث عن إعلان مسابقة تعيين في الجامعات الحكومية وكان وقتها الأمر يستحق فالانهيار الاقتصادي لم يكن كبيراً، ومع ذلك عدد المغادرين لسوريا وللجامعات كان كبيراً جداً. حتى المشتركون بالمظاهرات أو من كتبوا على الفيس أو المطلوبون للاحتياط. بعض الناس دخل المعتقل وخرج فتوجه مباشرة للخارج مكتوباً له عمر جديد.  كان هناك خط هجرة مفتوح لتركيا – ألمانيا. التجربة الفلسطينية كانت محور تفكيري لابد أن يبقى أحد.... الشام لمن نتركها .... لهم لا ... الشام لنا.... و"نا" هنا هي نحن أي كل الشرفاء من كل الطوائف و"هم" أي كل الفاسدين من كل الطوائف أيضاً

أحد الحوارات والصراعات الداخلية كان سؤالاً وجودياً (بدأت الفلسفة ؟؟!!! لا لن أطيل) السؤال هو: هل نحتاج لتغيير النظام لنكون أحراراً؟ وسأحاول أن ألخص نتيجة المنولوج الداخلي كما يلي:

1- عشت في اليابان سبع سنوات لم أهتم يوماُ من هو رئيس الوزراء – بل كان هناك أزمة سياسية حيث اعتذر رئيس الوزراء الياباني (لا أعرف اسمه ولم أهتم بذلك وقتها ولن أسأل غوغل أو الذكاء الصنعي الآن لأكتبه في المدونة) عن تنفيذ وعد اطلقه اثناء الانتخابات يقضي باخلاء القاعدة الامريكية في جزيرة اوكيناوا اليابانية. عرفت ذلك بالصدفة أثناء وجودي في محطة قطار على ما أذكر وكان وقتها ظاهرا على التلفاز ينحني معتذراً للسكان المحليين في أوكيناوا. وبالبحث تبين أن رئيس الوزراء كان قد وعد بنقل القاعدة الأمريكية من الجزيرة اثناء حملته الانتخابية وفشل. 

وفي ماليزيا – الجامعة التي عملت بها كانت في مسقط رأس نجيب عبد الرزاق (رئيس الوزراء) وكانت من المدعومين من قبله كدعم مناطقي وكانت منطقتا كوانتان وبيكان والجامعة فيهما هي معقل المؤيدين الأساسي لنجيب لكن ذهاب نجيب أو بقائه (كما فصلت في تدوينتي عن ماليزيا) لم يؤثر بأي شيء على الجامعة. ذهب نجيب أو بقي، الجامعة كما هي.

وهنا بيت القصيد يجب أن يكون العمل الأكاديمي مستقلاً عن السياسة. قد يتأثر التنافس على المناصب والعميد الماليزي السيء الذي ذكرته للأمانة كان مدعوماً من السلطنة ومن الحزب الحاكم، لكن تم لفظه لاحقاً ولم يكن محل ترحيب في أوساط الأساتذة الجامعيين حتى حينها. كان يسعى جاهداً لاستقطاب طلاب ونشر أبحاث ليستحق ما ناله بالواسطة. هذه واحدة من القصص التي يجب أن نعمل عليها في سوريا: العمل المهني يجب ألا يتأثر بالسياسة وإن تأثر يكشف ويتصدى له.

 

2- على الصعيد الشخصي أنا مسؤول عن المكان الذي أنا فيه. فلا يجب أن يعنيني إن ذهب بشار أو بقي. أنا لا تعنيني السياسة ولا المناصب ولا الحكم، ولم أنتسب لا لحزب ولا لشبيبة. أنا مدرس أكاديمي وسأعمل في مجال البحث العلمي والتدريس متحدياً الظروف والفقر وقلة التمويل. وفي حال لم أتمكن من ذلك في الجامعة فأنا سأعمل من خلال جمعية البحث العلمي التي كانت قيد الاشهار في سوريا وسأكون عضواً فاعلاً فيها وهذه هي معركتي وهذا جهادي وهذا رباطي. وأنا مسؤول عم يتيحه الله لي. أما السياسة والحكم ففعلاً لم تعد تعنيني ولا يجب أن تعنيني إلا بالحد الأدنى. من حق الأكادميين العمل في السياسة لكن أنا على المستوى الشخصي فغير مهتم.

3- وصل والدي لمنصب يوازي معاون وزير في فترة حكومة ناجي العطري وأيام د. الدردري. وقتها كان التوجه نحو التكنوقراط ولو ظاهرياً. عمل والدي بجد رغم أنه لم يكن لا حزبياً ولامحابياً لأحد بل بجهده وعمله وحرصه على البلد الذي تعلمته منه. الحمد لله كان متقاعداً وعمل مستشاراً مع منظمة ألمانية قبل الثورة بكثير. اليوم راتبه التقاعدي أقل من 200 ألف ليرة سورية حاله كحال متقاعدي الوطن .....

أهم ما تعلمته من والدي أطال الله عمره أن العمل والتفاني لا بد أن يثمر. وسيتاح للمرء مجال يقدم فيه ما يقدر عليه دون محاباة لأحد. وكثيرون في سوريا كانوا ومازالوا في العمل الحكومي وهم وطنيون شرفاء يعيشون على حد الراتب. الحكومة لا تعني النظام دوماً رغم أن النظام الفاسد يسعى لابتلاع الحكومة. لكن الحكومة في النهاية مجموعة من المؤسسات وفي كل مؤسسة أناس شرفاء يرون أن الحفاظ على العمل المؤسساتي وفق القانون  والحس الوطني هو الضمان للبلد.

 

رغم أن جزءاً مم سبق شاعري وعاطفي أكثر من اللازم، لكن بناء عليه توكلت على الله وعدت إلى سوريا. أحد أصدقائي وصف الحالة بأن باب سوريا شبه مفتوح لي مغلق لغيري وأنا أتوجس خيفة من الدخول مع أنني متحرق يقتلني الفضول لأدخل. فهل يستحق الدخول المخاطرة؟ وكان الجواب نعم .... واليوم بعد أكثر من ست سنوات من العودة .... نعم يستحق ... خسرت الكثير مادياً لكنني معنوياً وضميرياً في أعلى درجات الرضى. ولم يحدث شيء ينقص من حريتي خصوصاً أنني غير مهتم لا بمناصب ولا سياسة. ويكفي المنظر المهيب الذي رأيته لهروب الجيش العشوائي على اتستراد درعا حتى قبل وصول الثوار وجنود ردع العدوان.

بالنسبة لحرية العمل، أود أن أذكر بعض القضايا التي أرغب أن أظهر فيها أن الحرية قرار والأمور تأتي بتسهيل من الله، وما قمت به ربما بسيط مقابل ما قام غيري وربما هو نفسه أودى بغيري إلى الهاوية لكنني كنت مستعداً وحذراً في ما قمت به.

 

الحرية قرار:



1- نجحنا أنا وعدد من الأصدقاء في تسجيل جمعية البحث العلمي دون صعوبات أمنية 😅 وهنا أود أن أذكر موضوعاً ربما يعتبر سخيفاً. بعد الاشهار أقمنا ندوة تعريفية في المركز الثقافي العربي في كفرسوسة. ولم نبدأ لا بالنشيد العربي السوري ولا بالوقوف دقيقة صمت على أرواح الشهداء. ولم يحدث شيء. ربما كتب فينا تقرير لكن لم يحدث شيء. ومن وقتها لم نقم بأي من هذه الممارسات في أي اجتماع. طبعاً ضمن النظام الداخلي لا يحق للجميعة التدخل بالمواضيع الدينية والسياسية وهذه سياسة فنحن نلتزم بالقانون.

2- مؤخراً تم تعييني في أحد الاتحادات وكان هناك فعالية قام بها أحد أعضاء الاتحاد للاحتفال بعيد ميلاد سيدة الياسمين (والياسمين بريء منها). دعا أعضاء الاتحاد، فذهب من ذهب لكنني لم أذهب .... واحتفى الاعلام بهذه الفعالية. نعم فكرت بخطورة عدم الذهاب ومع ذلك لم أذهب.

3- كان هناك لقاء مع وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل وهي من حمص وربما يوجد قرابة معها، لكن يقال عنها أن والدتها صديقة والدة أسماء الأخرس. أيضاً لم أذهب ....

4- لم ننشر أي منشور (بوست) في الجمعية لأي مناسبة وطنية (أو بالأصح اجرامية لا وطنية)

5- منذ أربع سنوات وأنا رئيس قسم المعلوماتية في الجامعة الدولية IUST. لم يحدث يوماً ان استجبت لواسطة بما يخالف القانون، أنا أساعد كل الطلاب ضمن القانون وأدعمهم وأطبق روح القانون على الجميع. حصلت بعض الاتصالات ولا شك، ولكنني أبداً لم أستجب لأحد، لا أبناء مسؤولين ولا أبناء ضباط. حتى طلاب ما كان يعرف بالاتحاد الوطني لطلبة سوريا، لم يكن التعامل معهم إلا ضمن الأصول وبما يحقق مصلحة الطلاب. وللأمانة كانوا مؤدبين ملتزمين - معي على الأقل. أقول بفخر أن الأمور في قسمنا وحتى في كليتنا بفضل تعاون عميدنا وإدارة الجامعة شبه مثالي. وأحتفظ كما أظن بود واحترام الجميع.

6- من ميزات الجامعة التي أعمل بها أن مكتبي كرئيس قسم لم تكن فيه صورة للرئيس الفار ولا لأبيه، أحد رؤساء الأقسام أحضرها بعد تعيينه تطوعاً 😂 لكن ثلاثة منا في كلية الهندسة والتكنولوجيا لم يكن عندنا هذه الأيقونة الاجبارية. العمداء ورئيس الجامعة موجودة عندهم لكن نجاني الله منها. مرة سألني أحد طلاب اتحاد الطلبة: دكتور لماذا ليس عندك صورة؟ هل أجلب لك واحدة؟ قلت له لا داعي، واجب الجامعة أن تجلب لنا وسأتابع الموضوع. الحمد لله مرت على خير 😅 وحتى اليوم لم ولن أضع صورة لأحد.

 

الصورة في مكتبي مع طلابنا وبلا صور

مميزاتنا نحن السوريون:

قضيت حوالي 6 سنوات في سوريا حتى اليوم ويتوافق تاريخ نشر هذه التدوينة مع تصريح الرئيس الأمريكي ترامب حول نيته رفع العقوبات عن سوريا وهنا وبعد هذه المقدمة الطويلة حان الوقت لألخص بعض صفات الشعب السوري وخصوصاً الشباب الذين عاشوا الجزء الأكبر من حياتهم في ظل الثورة والأزمة والسنوات العجاف:

1- الشعب السوري شعب أخلاقي ومؤمن بكافة طوائفه ومؤدب في غالبيته. لا يخلو شعب من مجرمين أو سفلة أو حثالات أو أشقياء. لكنني وبكل ثقة أجزم بأنهم قلة قليلة جداً في سوريا وكانوا تحت حماية النظام بغالبيتهم. رغم الأزمات الاقتصادية التي أكلت الأخضر واليابس لم يكن التعفيش والسرقة إلا من قبل أزلام وعساكر النظام أو الشبيحة والزعران الذي نصروه أو قلة قليلة من الفصائل الذين انضموا للثورة لأنهم مطاريد مطلوبون للشرطة. أما الشعب السوري الجائع الذي كان في غالبيته تحت حد الفقر الأدنى لم تنتشر بينه الجريمة ولا السرقات ولا السلب ولا أكل الحرام. حتى يوم السقوط والانفلات الأمني وهروب الشرطة وعناصر الأمن وخلو المخافر – حدثت حوادث سرقة لكنها بالحد الأدنى وجزء كبير منها على قلتها كان ضد مؤسسات النظام أو من يعتبر مقرباً له.

2- الشعب السوري طيب بالمجمل خدوم محب للخير وأهل الخير كثر، لكن للأسف تربينا على "الحربقة" والواسطة وتجاوز الدور وأخذ حق الآخرين. وهناك فصام غريب بين التدين وحب الخير من جهة وتجاوز القانون من جهة. مثلاً لا يمكننا الالتزام بالصف إلا ما ندر. لا نستطيع إلا أن نخالف قوانين السير ولو بالحد الأدنى. الرشوة للشرطي حتى لا يخالفنا أصبحت شبه منظمة في ظل النظام. طبعأً ساهم في ذلك سوء التشريعات وعدم إمكانية تطبيق النظام. مثلاً الصف الثاني للسيارة مع وضع رقم الهاتف هي ممارسة يومية بسبب عدم إمكانية إيجاد موقف. وكان الشرطي في ظل النظام يتصل بالرقم حتى تأتي وتدفع له كي لا يخالفك. المعاملات الحكومية، دوريات التموين والجمارك وغيرها تحل مشكلتها بالدفع. الغش في الامتحانات منتشر كثيراً بل ويُعتبر شطارة، ومايزال حتى بعد السقوط. اليوم حتى بعض سقوط النظام ماتزال المخالفات المرورية مستمرة، أخذ دور في البنك إما بواسطة أو بالدفع للعامل على الذي يعطيك كرت الدور ممكن، الشقيعة وميسري المعاملات مازالوا نشيطين، بيع البانزين المهرب ...إلخ كله مستمر. طبعاً قلة الكاش وحصر السحب بمبالغ صغيرة وتوقف الصرافات خلق اختناقاً وزحمة فقد تضطر للانتظار أربع أو خمس ساعات للحصول على 200 ألف ليرة (20 دولار بسعر اليوم تقريباً) والحد الأعلى قد يصل إلى 100 دولار. الناس مشغولة ومخنوقة ولذلك تنشأ الحلول البديلة الالتفافية. لكن عندما أتذكر أزمة الزلزال الياباني وتسونامي والرقابة المجتمعية والالتزام الياباني بأخذ حصة عادلة من الموارد المحدودة أخجل مم نفعله.

3- شعب الشماعات: الحقيقة الشعب السوري شعب مكافح ودؤوب، متعدد المهارت، لكن كما يقول المثل كثير الكارات قليل البارات، لكن في ظل السنوات العجاف فقد كثير من الناس عموماً والطلاب خصوصاً في مجالي الدأب والشغف. السفر هو أحد أهم أهداف الشباب حتى ما قبل الحرب وازداد كثيراً في ظلها. السفر هو الحل السحري للهروب من الخدمة الالزامية وللتخلص من الواقع المزري (لا كهرباء ولا ماء ولا انترنت ولا فرص عمل ولا بنية تحتية). طبعاً حلم السفر يجب أن يكون حافزاً للاجتهاد، لكن قلة هم من تستعدون كما يجب. دائماً ما أمزح قائلاً: "الطلاب اليوم نوعان طالب يعمل بجد لأنه يريد أن يسافر وطالب لا مبال لأنه يريد أن يسافر". المشكلة أن النوع الثاني أكثر. هؤلاء يظنون أن مجرد الخروج من البلد سيكون التحصيل العلمي أسهل والنجاح أسهل والعمل أسهل بينما الواقع أن الاستعداد الجيد هو الحل. طبعاً الطلاب والموظفون وغيرهم وغيرهم...  يلعنون الظلام ويكرهون الظروف ويجمدهم اليأس رامين في كثير من الأحيان تقصيرهم على الظروف. فكلما حصلت مشكلة امتنع الطلاب عن الذهاب إلى الجامعة. ودائماَ همهم اللحاق بالباص أي باص العودة باكراً من الجامعة. بينما بالعكس يجب أن تكون الظروف هي الحافز. طبعاً منذ كنا طلاباً كانت الظروف وضعف السيادة والتدخلات الأجنبية حافزاً لمتابعة الكثير من الأخبار والتحليلات السياسية التي يغلب عليها العناد والتعصب للرأي والتي بدورها تقود لكثير من الجدل والشجار والتناحر. لكنها أبداً لم تكن محفزات للعمل إلا من رحم الله. اليوم الأمل كبير لكن ما يزال العمل المطلوب والدأب المطلوب أقل من المتوقع برغم التحسن الملحوظ.

4- الشعب السوري للأمانة شعب مثقف، مسالم. تعدد التيارات الثقافية السياسية والأيديولوجيا والدينية والعرقية والطائفية والمناطقية تخلق جواً حوارياً تعددياً في المدن الكبرى. وتحقق قدراً كبيراً من تقبل الآخر والتعايش السلمي. لا تخلو الأمور من تحزب وتعصب لكنه مقبول. الأمر نفسه ينخفض كثيراً في بعض الأرياف لا كلها، حيث يزداد الجهل والتعصب. وقد لعب النظام السابق على ذلك فنرى ثارات ونعرات بين القرى المختلفة الانتماءات. لكن مشكلة الشعب السوري أن هناك فئة كبيرة من الأشخاص معتد بذاته عن جهل متمسك بأفكاره عن تعصب لا في الأمور الثقافية فقط بل بالأمور العلمية حتى. ودائماً ستجد شخصاً يفتي في كل شيء ويفهم في كل شيء: يصف لك دواء ويعلمك كيف تصلح سيارتك وكيف تشتري وكيف تبيع وبكم وكيف تتعامل مع هذا وكيف تتعامل مع ذاك ويفتيك في الدين والاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع والطب وأنواع الموبايل.  أصل المشكلة أن ثقافته نقلية حوارية لا تعتمد على القراءة والتعلم. نعم يوجد عدد كبير من المثقفين الواعين لكن الغالبية الشعبية تعتمد النقاشات وسمعت وقيل ... وهكذا. وحتى إن وجد من يقرأ أو يتابع، فإنه تغلب قراءات وسائل التواصل الاجتماعي على قراءة الكتب والمصادر الموثوقة عند غالبية الشعب أو حتى الاستماع لبرنامج وثائقي أو لقاء مع شخصية مرجعية. مثلاً قد تنال هذه المقالة بعض الاعجابات على وسائل التواصل الاجتماعي لكن أشك أن عدد من سيقرؤها سيتجاوز 10% ممن أعجب وشارك المنشور. (من وصل إلى هنا أرجو أن يذكر في التعليقات أنه قرأ المقالة كاملة ويكتب أنا من ال10% كإثبات لنظريتي 😂).

أما بالنسبة للأجيال الجديدة، فجيل مواليد ال2000 وما بعده أشك أنه يملك أي ثقافة رصينة. بل تكاد تخلو الساحة الثقافية من أي إبداع ثقافي حر. حتى الدراما والمسلسات مسروقة مقتبسة. والتعليم اليوم هو في أدنى مستوياته بسبب تدهور التعليم وتعقيد قوانين تعديل المناهج. وهناك ضعف الهمة رغم توفر كم هائل من المصادر. ربما المصادر المتاحة ليست الأحدث لكنها أفضل بكثير من الوضع على أيامنا. وهناك مشكلة أكبر تبرز هنا. ألا وهي أن بعض الطلاب نصف المطلعين يحسون بنوع من التفوق على كثير من اساتذتهم غير المطلعين لأسباب كثيرة أهمها عدم متابعة الجودة وضغوط الحياة. هذا التفوق الذي يحسه الطلاب يجعلهم معتدّين بذاتهم مع شعور زائف بالعبقرية يؤدي لاحقاً لخمول وفشل. طبعاً إلا قلة قليلة من الأساتذة والطلاب وغيرهم في كل قطاعات المجتمع، يعملون بجد كبير جداً يحفرون الصخر بل الصوان. بعض عملهم يترك أثراً وبعضه كمن يحفر في الماء كما يقول المثل: "دق المي وهي مي"؟

اليوم بعد التحرير ورفع العقوبات هل ستتغير الأمور؟ الجواب الدمار كبير والعمل كثير لذلك:


 

1-     لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم

2-     قل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون.

في النهاية أريد أن أنوه لأمرين: الأول أن ما كتبته يبقى تدوينة توثق تجربة شخصية تعتمد على ما شاهدته وما تأثرت به وليس ورقة أو مقالة علمية. والثاني: كنت أنوي أن أدون نفس الأفكار قبل سقوط النظام البائد ولكن للأمانة بعض الجمل والكلمات كانت لتتغير. مثلاً "ثورة" كانت لتصبح "أزمة" وماكنت لأكتب تجنبي للزيارات واللقاءات وعدم البدء بالنشيد صراحة لكني كنت لأكتب مثلاً: العمل لا يحتاج لقاء المسؤولين وقد سنحت لي عدة فرص للقاء مسؤولين ولم أذهب لأنني أرى دعم الله وبذل الجهد أهم من الوسائط. فالحمد لله الذي أرانا سقوط النظام حتى أسمي الأشياء بأسمائها وأوضح أفكاري أكثر. لكن تبقى الحرية قراراً داخلياً فلنحافظ عليها ولنحمها بقلة التطبيل وبكثرة العمل من أجل الحرية والديمقراطية والسيادة.

 

Comments

Popular posts from this blog

أصل ونسب آل السباعي في حمص

أصل ونسب آل السباعي في حمص في عدد من المواقع التي تتناول عوائل حمص وفي بعض المواقع التي تتناول ما يعرف بالأشراف تكرر ما يلي ولا أعلم مدى صحته حيث أنني لم أرى الوثيقة المذكورة: بتاريخ 24 جمادى الأول 1407 هـ 24/01/1987 أرسل الحاج الشيخ نسيب بن عبد الرحيم سعيد الجابي السباعي رسالة الى أسرة آل السباعي يوضح فيها الحسب والنسب وفيها : أن الجد الأعلى لعائلتنا السباعي في بلاد الشام هو سيدي السيد عبد القدوس السباعي ، وكان حضر الى حمص – سورية قبل ألف ومائة سنة تقريباً وقد ذكر بأنه قدم من بلدة ساقية الحمراء – الواقعه قرب مراكش في المغرب وانه يحمل مستنداً (شجرة) تفيد بأنه من أحفاد سيدنا إدريس بن سيدنا الحسن بن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين .وأن جدة سيدنا أدريس هي سيدتنا وسيدة نساء الجنه فاطمة الزهراء – إبنة سيدنا رسول الله محمد بن عبد الله الصداق الأمين وإن سيدي عبد القدوس ذكر بأن جده الأعلى سيدنا إدريس كان فر من الأمويين لعزمهم على إغتياله وأنه لجأ الى أمير البربر في المغرب وقد تزوج أبنة أمير البربر وأن الله سبحانه وتعالى قد بارك بذريته وإنتشر أفرادها في شمال أفريقيا و...

لغات البرمجة الإحصائية SPSS و R و SAS و Python.

يدخل الإحصاء  في كثير من الاختصاصات العلمية كأداة من أهم أدوات البحث العلمي وتحليل البيانات بهدف استخلاص النتائج وإيجاد العلاقات الرياضية بين المتحولات. ولا بد أن أي طالب علم أو باحث قد سمع بما يسمى لغات البرمجة الاحصائية التي تستعمل لتطبيق القوانين الاحصائية على البيانات ومن أشهر هذه اللغات SAS, SPSS, R و Python.  تعتبر اللغتان  SAS و  SPSS الأكثر شهرة بين الباحثين لأن أغلب الجامعات تشتري رخص استخدام وتتيحها للباحثين مجاناً. المهتمون بالبرمجيات المجانية والبرمجيات مفتوحة المصدر يفضلون استخدام لغة R والتي تلاقي انتشاراً واسعاً هذه الأيام حتى أن البرمجيات التجارية تتيح تصدير البيانات والاتصال مع R و Python. SAS هو اختصار Statistical Analysis System أو نظام التحليل الاحصائي وهو برنامج طور في جامعة North  Carolina State University وأول ما طور كان بهدف تحيل البيانات الزراعية كبيرة الحجم ثم استقلت شركة SAS كأسم تجاري مستقل منذ 1976  SPSS هو اختصار لـ  Statistical Package for the Social Sciences المطور للعلوم الاجتماعية وهو أول لغة برمجة ...