كان العام 2011 عاماً صعباً جداً فقد حدث فيه زلزالان كادا يطيحان بفرصة حصولي على الدكتوراة الزلزال الأول في اليابان وهو زلزال فوكوشيما في آذار 2011 وهو ما سأتحدث عنه في هذه التدوينة. أما الآخر فهو زلزال مابات يعرف بالربيع العربي وهو كان أشد تأثيراً علي، لكنني لن أتحدث عنه هنا بل ربما أتحدث عنه في تدوينة أخرى.
الزلزال الأول تعلمت منه الكثير، وأهم ما تعلمته منه القدرة على تجاوزه بسرعة. أما الثاني فلا أستطيع أن أتجاوز تأثيراته حتى اليوم. دعوني من الثاني ولنتكلم عن الأول.
الحدث :
كانت الساعة حوالي الثانية والنصف في تسوكوبا - اليابان. كنت في المختبر كالعادة أقوم بعملي المعتاد في التحضير لرسالة الدكتورة وفجأة حصل هزة ضخمة. رغم اعتيادنا على الزلازل في السنوات الأربعة أو الخمسة التي قضيتها في اليابان لكن كان هذا شديداً فلأول مرة تنقلب الأشياء في غرفة المختبر وتنقطع الكهرباء. استمر الزلزال لدقائق ليست بالقصيرة ثم توقف. قال لي أصدقائي اليابانيون أن علينا مغادرة المكان قبل حصول الهزة الارتدادية. نزلنا وحصلت الهزة الارتدادية ثم قال لنا حرس المبنى أن هناك خطورة في العودة إليه وعلينا المغادرة. عدت بسرعة أخذت أغراضي وانطلقت إلى البيت لأجد زوجتي في حالة رعب وقد نزل كل من في مبنى بيتنا إلى الشارع ثم كان لا بأس من العودة لكن زوجتي وأصدقاؤنا العرب آثروا عدم العودة خوفاً ولأنه ستكون هناك عدة هزات ارتدادية. وهذا ما كان فقد استمرت الهزات أشهراً بوتيرة متناقصة.
كانت تجربة الزلزال رعباً لحظياً لكن الرعب الحقيقي كان عندما علمنا بتأثير الزلزال على المفاعل النووي المولد للطاقة في فوكوشيما. كان الرعب بادياً على وجوه الجاليات الأجنبية بشكل عام وسارعت سفارات الدول المتقدمة في تأمين إخلاءات لمواطنيها. كنت من الصامدين بسبب أنني كنت في السنة الأخيرة للدكتوراة ولا مجال عندي لإضاعة الوقت في الذهاب والإياب. ولأنني من خلال متابعتي للأخبار الموثوقة فقد كانت نسب الإشعاع في تسوكوبا حيث نقيم أنا وزوجتي في الحد الآمن. طبعاً كان عليي تحمل قلق زوجتي وقلق الأهل الذين كانت مصادرهم عربية لا تتوخى الدقة في التعبير عن الحوادث فهي تشمل اليابان ككل في إخبارها. طبعاً كانت نسبة التسرب الإشعاعي عالية جداً في محيط المفاعل في فوكوشيما لكن ليس في المدينة التي نحن فيها لكن التعميم والتهويل واستخدام تعابير من شاكلة "أكبر وأخطر كارثة نووية في العالم" أو كارثة تعيد للأذهان كارثة تشيرنوبل" وهكذا جعلت الأهل والزوجة في حالة توتر فلم يكن أمامي سوى المغادرة لطمأنتهم خصوصاً بعد أن وردت أنباء عن ارتفاع نسبة الإشعاع حيث نحن حيث كنا نتابع مواقع قياسات الاشعاع عبر النت. هذه الزيادة كانت طفرة استمرت لأقل من ساعة لتعود الأمور طبيعية لكن كان من الصعب تهدئة زوجتي بعد توارد الاتصالات من فاعلات الخير لتحذيرها فكان لا بد من الحصول على إجازة إجبارية. قضيت حوالي أسبوعين في سوريا ثم عدت وحدي لتلحقني زوجتي بعد مدة وبعد التأكد من سلامة المكان
التجربة كانت من أجمل التجارب في حياتي رغم متاعبها، لأنني تعلمت عدة أشياء عم يسمى إدارة المخاطر (risk mamagement) وهي حالة فريدة من التعاون بين الحكومة والمواطنين.
أشياء تعلمتها من اليابانيين في محنتهم الاخيرة في فوكوشيما
١- الهدوء وعدم الهلع والتسهيلات: كان تعامل الناس مع الحادث مبهراً. أنا بطبعي أضبط نفسي عند الحوادث المهلعة لكن اليابانيين كلهم منضبطون بعكس الأجانب المروجين للشائعات المسببين لزيادة الهلع. هذا لا يعني أن اليابانيين لم يخافوا، ربما هم متعودون على الزلازل، لكن مع انتشار أخبار التسرب النووي بدا القلق في العيون، لكن التحرك والعمل بقي هادئاً ومنظماً. وسبب ذلك هو التدريب المستمر في المدارس وفي أماكن العمل. حيث عندما تأتي الكارثة يعرفون بالضبط ما يفعلون. وقد علمت ذلك عندما تخرجت وانتقلت للعمل في اليابان. في العمل مع بداية كل سنة يطلب من العاملين أن يقوموا بتنفيذ عملية إخلاء وهمية للمبنى والتجمع في ساحة بعيدة عن الأبنية تكون بعيدة عن مخاطر الزلازل والحريق أو غيرها من الكوارث.
بالنسبة للتسهيلات، لا أريد أن أطيل الحديث عن التسهيلات، لكن كمثال سأتكلم عن بعض ما شاهدت في المطار. كان أهم هذه التسهيلات جعل الانترنت مفتوح مجاناً للجميع علماً أنه مأجور في الأحوال العادية (تسهيلات بدل الاستغلال) والأمر الثاني توفير بطانيات وتسهيل النوم في المطار لمن لا يريد حجز فندق. وذلك أن كثيراً من الأجانب ومنهم طلاب أو عمال فقراء بسبب حالة الخوف قرروا التوجه للمطار ومحاولة الحصول على حجز مبكر في الطائرات. منهم لم يجد في نفس اليوم فاضطر للنوم يوماً أو يومين على كراسي المطار فلم يتم التعامل معهم بخشونة بل تم تقديم تسهيلات لتحقيق راحتهم.
٢-الالتزام بعدم الاحتكار أو التخزين: بسبب الزلزال توقفت القطارات وخطوط النقل عدة أيام بسبب الخوف من الهزات الارتدادية، مم سبب نقصاً في بعض المواد وأهمها الوقود وبسبب تلوث المياه ازداد الإقبال على عبوات المياه المعدنية. ولذلك قررت المحلات تخصيص زجاجة أو زجاجتي مياه لكل شخص ولا يسمح له بشراء أكثر. طبعاً تنفيذ القانون تم بوضع ملاحظة على ورقة في مكان بيع المياه وكانت كافية ليلتزم الجميع. ونفس الموضوع بالنسبة لبضائع أخرى. يسمح لك مثلاً أن تملأ الوقود بما لا يزيد عن 2000 ين (أو 1000 ربما لا أذكر) في كل مرة وهكذا مع الخضار وباقي السلع. وقد كان التزام اليابانيين مدهشاً بذلك فإذا ذهبت إلى المحلات ستجد ما تريد حتى ولو شح وستجد طوابير منظمة للماء والمشتريات. لا كلمة جافة و لا تصرف جارح ولا شجار ولا تلاسن مع الموظفين. الأهم من ذلك أن الأسعار لم يطرأ عليها أي تغيير بل بقيت كما هي.
وللصراحة بدون أن أنتبه قمت بالوقوف متعديا على دور غيري في محطة البانزين لأن الصف كان عبارة عن حرف L منقطع عند حارة فرعية فلم أنتبه لضلعه الآخر، ووقفت عند مدخل الحارة الفرعية وراء آخر سيارة. انتبهت لذلك عندما تحرك الدور فتقدمت للأمام لتأتي سيارة من بداية الضلع الآخر وتقف ورائي. المدهش أن أحداً لم يكلمني ولم أسمع صوت بوق السيارة. احترام زائد عن الحد هو في حقيقته احترام للذات.
٣-التضحية: خمسون عاملا آثروا البقاء (رغم خطر الموت) في المفاعل النووي يضخون ماء البحر فيه لغرض تبريده. وبعدها نقلت وسائل الإعلام خبراً عن تطوع عدد كبير من كبار السن أعمارهم فوق الستين للدخول إلى المفاعل النووي في فوكوشيما للمساعدة في إيقاف التسرب وإصلاح الأضرار. ذلك بسبب وصول الاشعاعات إلى درجة خطرة جدا على صحة الانسان حيث تم إخلاء دائرة قطرها حوالي 30 كم. وسبب تطوعهم أن الأبحاث قد اثبتت بطء تحول و انقسام الخلايا بتقدم السن، مما يعني أن أثر الإشعاعات على كبار السن أبطأ بكثير من أثره على الشباب كما قيل، وأيضا يقول المتطوعون أن جيلهم هو من حث على استخدام الطاقة النووية مما يجعلهم مسؤولين عن هذه الكارثة وبذلك عليهم تحمل المسؤلية ….. والنقطة الآهم بالنسبة لهم هي أنهم في آخر سنواتهم فإذا أصابهم السرطان من الإشعاعات - وهو المتوقع - فأنه سيأخذ بضع سنوات للانتشار وهم عاشوا لسن الـ٧٠ تقريبا وفضلوا أن يصيبهم السرطان بدلاً من أن يصيب الجيل الأصغر .
٤-الإعلام: كان هناك متابعة حثيثة ودقيقة لكل المناطق وتطوعت المراكز البحثية المنتشرة لاستخدام أجهزة قياس الاشعاع ونشر تقارير دورية ومتابعة حقيقية لنسب الإشعاع لم يكن هناك إخفاء للحقائق ولا تهويل. أظهروا تحكما رائعا لم يكن هناك مذيعين يهولون ويصرخون طلباً للشهرة، فقط تقارير هادئة وحقيقية حسب ما شاهدت.
٥-الضمير الحي: عندما انقطعت الكهرباء والانارة في المحلات وبقيت الأبواب مفتوحة لم تسجل حالات سرقة إلا نادراً، أعاد الناس ما بأيديهم إلى الرفوف وغادروا المحلات بهدوء ونظام من المخارج المحددة واتبعوا الطرقات المنارة بالبطاريات كما روى لي أحد الأصدقاء.
٦-حب الوطن: عندما قلت للمشرف أنني أريد أن أعود لسوريا في إجازة لأن أهلي وزوجتي خائفين قال لي معك حق فالإشعاع مستقر لكن يخشى ازدياده. قلت له ألن تغادر أنت فقال لي No we have to stay أي: لا (لن نغادر)، يجب علينا أن نبقى. وقصده أنه هذه بلدنا لا يمكن أن نهرب ونتركها يجب أن نبقى ونتغلب على الكارثة. وهذا بالضبط ما حصل في هيروشيما وناكازاغي اللتين أصبحتا اليوم من أجمل مدن اليابان بعد أن قصفتا بالقنبلة النووية.
Comments
Post a Comment