هذه التدوينة منقولة من هنا يتصف العقل القرآني بعدة قواعد منهجية منها الواقعية والموضوعية والبعد عن الغرائز الشخصية، الأمر الذي جعل هذا العقل القرآني ينشئ الحضارة الإسلامية بمنجزاتها العظيمة في شتى مناحي الحياة، مما يحتم على المسلمين في الواقع الراهن توظيف هذا العقل المنطقي في خلق نهضة قرآنية جديدة. ومن بين أسباب ضعف الحضارة الإسلامية: انحراف العقلية القرآنية ليصبح العقل المسلم مصابا بلوثة الخرافية والأسطورية، فضلا عن تعطيل هذا العقل بسبب طغيان العادات والتقاليد الموروثة وسيطرة الهوى التي توجه العقل إلى منزلقات الباطل. تلك بعض أهم خلاصات ما جاء في حلقة برنامج “الشريعة والحياة” الذي بثته قناة الجزيرة يوم الأحد 25 يوليو 2009، حيث ناقش موضوعَ العلاقة بين العقل والقرآن ضيفا الحلقة: الدكتور حسن الشافعي أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بالقاهرة والدكتور عبد المجيد النجار الأمين العام المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.
ماهية العقل القرآني
وتحدث الدكتور الشافعي في بداية الحلقة عن ما يميز خطاب وحديث القرآن الكريم عن العقل، ومنه أنه يتحدث عن العقل في حالة العمل وليس من حيث تكوينه الفيزيولوجي، كما أنه ترك الكلام عن ماهية العقل إلى عمل العقل من تأمل وتدبر له قيمة كبيرة تتمثل في استخدام هذه القوة التي منحها الله تعالى للإنسان والتي ناط بها التكليف.
وقال عضو مجمع اللغة العربية إن الأساس في التوجه إلى الله تعالى يعد خطوة عقلية ويكفي أن برهان كل رسول يتجلى في معجزته، وطريقة دلالة المعجزة على صدق الرسول الكريم خطوة عقلية أيضا.
وحول سؤال لمقدم البرنامج حول تحديد أصل ونسب العقل الذي يتحدث عنه القرآن الكريم، أجاب للدكتور عبد المجيد النجار بأن العقل الذي يتحدث عنه الكتاب المجيد واحد عند جميع البشر، وليس هناك عقل إسلامي وعقل عربي وعقل يوناني..الخ، لكن الاختلاف يكمن في المسلك أو المنهجية التي تجعل الفروقات بين عقل وآخر وبين حضارة وأخرى، فالتفرقة ليست في ذات العقل بل في منهجية وطريقة عمله.
وعاد الشافعي ليقرر بأن وظيفة العقل أن يدرك بيئته ومن حوله وما يحيط به من أشياء وأمور وموجودات، فأول درجات الإدراك تأتي من الإدراك الحسي وتنمو الشخصية فتأتي المَلَكات النفسية بعد ذلك مثل الحب والكراهية..الخ، ثم يأتي تجريد الأفكار وهو ما يسمى بالعقل.
وخلص المتحدث إلى أن العقل يشمل كل ذلك بمصطلح قرآني هو القلب، والذي يعتبر بمثابة مجموع ملكات الوعي الإنساني، في حين أن العقل يعد ضربا منه.
درجات التعاطي مع العقل
وفي محور درجات تعامل المسلمين مع العقل وتخوف البعض منه وتحقير البعض الآخر له بخلاف ما يقرره القرآن الكريم، اعتبر النجار بأن بعض الفرق الإسلامية قديما وحديثا خشيت من استعمال العقل وتوظيفه بسبب ظهور بعض الأفكار التي ربما خالفت ثوابت الشرع تحت عنوان العقل والتفكير، فكان هناك نوع من الاحتراز من العقل بهذا المعنى.
وشدد الأمين العام المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث على أن التاريخ الفكري الإسلامي بصفة عامة أعلى من مكانة العقل بمفهومه الصحيح ورفع من شأنه، بل جعله في أعلى مرتبات الإدراك الإنساني.
وفي الطرف المقابل، يضيف النجار، هناك من المسلمين من قام بتأليه العقل وأهدروا أحكام الشرع باعتبار أن العقل هو الذي يحكم في هذه القضية أو تلك، وجاءوا بتعليلات معينة لتبرير تفوق العقل على الحكم الشرعي، فجعلت هذه الفئة من الناس العقل حاكما على النقل وذلك أحد طرفي التطرف في التعامل مع العقل.
والحقيقة، يخلص المتحدث، أن مجمل السيرة التاريخية للفكر الإسلامي يخالف تحقير العقل ويرفض جعله إلها وحاكما، فهو يتعاطى مع العقل بواقعية ويضعه في موقعه الوسطي المعتدل.
وعرج الشافعي في حديثه عن الفلسفة والعقل إلى إبراز أن العقل واحدة من حيث المبدأ الذي تنطلق منه، وهو النظر في الواقع انطلاقا من العقل، مضيفا أن القرآن الكريم يعبر عن الدليل العقلي والبرهان بعبارة السلطان.
والسلطان هنا، يوضح المفكر المصري، ليست بالقوة ولا بالبدن ولا بالإمكانات المادية، بل بتوظيف العقل واستخدامه استخداما صائبا ومفيدا.
ولم يفت الشافعي أن يشير إلى بعض الفروق بين التفكير العقلي الأوروبي وبين التفكير الإسلامي، حيث إن الأوروبيين شبعوا عقلا فبحثوا عن مصادر أخرى من المعرفة، في حين أننا نحن المسلمين لم نشبع بعد من العقل بل لم نستخدمه حتى كما يجب، على حد تعبير ضيف برنامج الشريعة الحياة.
واستطرد الشافعي بأن التفكير الغربي هو أكثر دقة وإحكاما وواقعية، كما أنه يعتمد أساسا على المنطق والدليل والأسباب والنتائج، في حين أن المشهد الفكري الإسلامي تطغى عليه العاطفية أكثر وهو أقل دقة وإحكاما.
الحاجة إلى نهضة قرآنية
وبخصوص محور إعادة الاعتبار إلى العقل القرآني في واقعنا اليوم، تحدث النجار أولا عن بعض القواعد المنهجية التي يتصف بها العقل القرآني، ومنها الواقعية حيث يوجه القرآن المسلم إلى النظر في الواقع، وقاعدة الموضوعية لكون العقل القرآني لا يتدخل فيه الهوى ولا توجهه العادات والتقاليد الموروثة..
وزاد النجار بأن هذا العقل القرآني هو الذي أنشأ الحضارة الإسلامية التي أبهرت العالم بمنجزاتها الخالدة في مجالات العمران والثقافة والفنون وغيرها، حيث انطلق العقل القرآني من واقعيته وبدأ في استكشاف ما حوله ليتجه إلى الشعوب وبني الإنسان.
وأكد المتحدث بأن المسلمين اليوم يحتاجون أكثر من أي وقت مضى إلى إحداث نهضة قرآنية جديدة انطلاقا من استخدام العقل القرآني استخداما نافعا، مردفا أن ضعف الحضارة الإسلامية مرده انحراف العقلية القرآنية لكونها أضحت أحيانا خرافية وأسطورية وبات العقل معها شانا دونيا ومتخلفا.
وأوضح النجار أن المسلمين يعانون راهنا من مشاكل حضارية ضخمة من جراء عدم استعمال العقل القرآني استعمالا صحيحا، مستدلا بجماعات من الناس يمتلكون عقلية “خطية” تسير وفق خط مستقيم دون الالتفات لا يمينا ولا يسار، مما يضيع عليها الاستفادة من تجارب الآخرين ولا التأثير أو التأثر بالغير.
وزكى الشافعي هذا القول بالتأكيد على أن المسلمين في حاجة إلى توطين الفكر العليم الصحيح داخل العقلية الإسلامية حتى لا يظلوا تائهين حيث إن البعض ينصر العقل أحيانا ثم ينبذه أحيانا أخرى دون بوصلة ولا قواعد واقعية يسر على هداها هذا العقل المسلم.
حدود العقل ومعطلاته
وناقش النجار والشافعي محور علاقة العقل بالإيمان ومتى يتم تعطيل العقل القرآني، فقال النجار إن الزعم بان هناك تناقض بين العقل والإيمان لا مبرر له في القرآن الكريم ولا في مجمل العلوم التي تطورت في ظل هذا الكتاب المبين.
واسترسل المتحدث بأن الإيمان ـ في المفهوم الإسلامي ـ يكون إيمانا معتدا عندما يكون ناشئا عن التدبر العقلي والاستدلال العقلي، حتى إن قلة من العلماء قالوا إن الإيمان الذي يحصل دون الاستدلال العقلي ليس بإيمان أو هو إيمان ناقص.
وأفاد النجار بأن الإيمان عندما يحصل بالعقل يتم استخدامه في تقوية الإيمان وداعما له، باعتبار أن الإيمان يزيد وينقص كما هو مقرر، وزيادته تكون بالتأمل في الكون والتدبر في آيات الله تعالى كما يدعو القرآن إلى ذلك.
وحول الحدود التي يقف عندها العقل، أجاب الشافعي بأنها حدود حذر الشرع من تخطيها لكونها تتعلق بما لا يمكن للعقل أن يتوصل إليه، فكل ما هو ضد العقل لا يقبله الشرع الإسلامي.
ومن هذه المنهيات التي نهى الشرع أن يتخطاها العقل ما يرتبط بمعرفة الحقائق الإلهية مثل معرفة الذات الإلهية أو مسائل القدر، فهي بعض الأمور التي حذر الوحي العقل من الغوص فيها، لكن دونها ليس هناك حدود لكي يقف عندها.
وبخصوص قضية معطلات العقل القرآني، أوجزها الدكتور النجار في معطلين اثنين رئيسيين
أولهما اتباع التقاليد والعادات الموروثة حيث أضحت بشبه مصادرة للعقل وتلجمه عن اتخاذ مبادرة حرة في التفاعل مع معطيات الواقع، فينتهي العقل إلى ضلال وباطل.
أما المعطل الثاني فيتجسد في سيطرة الهوى على العقل باعتبار أن الإنسان له شهوات وغرائز وأهواء التي كثيرا ما تسيطر على العقل وتوجهه إلى وجهة تفضي به إلى الهاوية، ولهذا جاء القرآن الكريم منبها الإنسان حتى يتحرر من ربقة الهوى.
وختم الشافعي الحلقة التلفزية التي خصصت للعقل والقرآن بالحديث مقتضبا حول العقل والنقل، واعتبر بأن صور التعامل مع الوحي تعددت، فهناك من يتشبث بالحرفية في فهم النصوص، وهناك من تنصل نهائيا من الوحي ومقتضياته، فقال بعضهم بالتأويل الباطني المطلق.
وخلص أستاذ الفلسفة الإسلامية إلى أن الحل لهذا الإشكال يكمن في اتباع مقياسين اثنين هما مقياس اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، ومقياس قواعد فقه الأصول وهو العلم الذي يتحدث مثلا عن مسألة القياس الذي يعني تجاوز الحالة الأصلية ونقله إلى الحالة المشابهة، فيكون العقل المسلم مبنيا حينها على قواعد منطقية وواقعية.
Comments
Post a Comment