إعجاز أم عجز علمي

Read it in English

من الأشياء المثيرة للازعاج (لي على الأقل) هو ما يمارسه بعض من يتسمون باسم علماء تحت اسم الإعجاز العلمي في القرآن. للأسف ينشغل بعض من هؤلاء "العلماء" بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وينسون إعجازه الحقيقي المتمثّل في كونه منهجاً للحياة صالحاً لكلّ زمان ومكان. القرآن الكريم هو منهج حياة وهو كتاب هداية للحق. وهو قطعاً ليس كتاب علوم أو طب أو جيولوجيا. العلم الطبيعي مكانه الجامعات وكتب العلم والمخابر. كثير ممن يسمون شيوخاً أو علماء اليوم يحاولون إثبات وإظهار العلاقة بين تفسير أيات معينة في كتاب الله وأحيانا أحاديثاً للرسول وبين بعض المكتشفات والنظريات العلمية الحديثة. محور هذه الدراسات الاعجازية تتمحور حول أن القرآن والرسول قد تنبؤوا أو بينوا أموراً غيبية قبل 14 قرناً. هذه الأمور أثبتها ويثبتها العلم باستمرار. وهذا التوجه يلقى رواجاً كبيراً بين المسلمين اليوم رغم أنه يتلقى نقداً من بعض العلماء الطبيعيين كون بعض التفسيرات ليست صحيحة وتعمد إلى لي اعناق النصوص وتفصيلها على مقدار الاكتشاف العلمي أو النظرية. واللادينيون عموماً يناقشون كثيراً من هذه الاعجازات لاثبات كذب ادعاءاتها. سأحاول في هذه التدوينة شرح رأيي بهذا الموضوع:

الاعجاز العلمي في القرآن:

يؤمن المسلمون جمياً أن القرآن الكريم هو بحد ذاته معجزة ربانية. العرب والناطقون بالعربية خصوصاً يعلمون ربما أكثر من غيرهم الإعجازات اللغوية والأدبية التي يزخر بها القرآن الكريم ما يجعله كتاباً معجزاً تحدى الله به العرب أن يأتوا ولو بآية من مثله.

هذا كما أن القرآن الكريم يحتوي وصفاً بديعاً للسموات والأرض والشمس والقمر والكواكب داعياً الانسان للتفكر في خلقها. كما أنه يدعو الانسان للتفكر في خلقه من خلال الوصف الدقيق لمراحل تكون الانسان ونهايته بالعودة إلى أصله الذي إنما هو التراب فلا يتجبر ولا يتكبر. هذه الوصوفات والحقائق المذكورة في القرآن تتوافق بشكل جيد جداً مع ما تظهره الدراسات المجهرية والفلكية حول السموات والأرض وحول تشكل الجنين. لكن يجب أن نذكر دوماً أن الغرض الأساسي لذكر هذه الأشياء في القرآن الكريم هو إظهار عظمة الصانع والخالق لهذه المخلوقات قال الله تعالى: ﴿صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل:88]، وقال سبحانه: ﴿مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ﴾ [الملك:3]. ولا شك أن هذا الوصف الدقيق فيه إعجاز من ناحية مهمة ألا وهي أنه من المستحيل أن يأتي به بشر أمي قبل 1400 سنة أو مايزيد إلا أن يطلعه الخالق على هذه الحقائق وحياً. وهذا من الدلائل المنطقية والقوية على المصدر الالهي للقرآن ضمن هذا السياق. هذا مع الانتباه أن هناك سياقات ودلائل أخرى على إلهية مصدر القرآن بعيداً عن الإعجاز العلمي وقد لا يكون الاعجاز العلمي أهمها.

إذا لم تكف مثل هذه الدلائل الواضحة والصريحة مشككاً أو باحثاً ضمن هذا السياق عن الحق للاقتناع بإلهية القرآن وكونه كتاب الله الموحى لنبيه فلن تقنعه أدلة أقل وضوحاً تحتاج شرحاً وتأويلاً لآيات ربما ليس لها علاقة حقاً بما يحاول باحثوا الاعجاز اثباته.بمعنى أخر يجب التفكر قبل الانجراف في مقالات وإثباتات الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، فالإفراط في هذه المسألة ليس جيداً فهو يتجاوز إلى الشطط أحياناً ويصل حد التنفير وإثارة السخرية. كما أنه ليس ضرورياً أو مفيداً تلك الفائدة الهامة الحقيقية برأيي.

لكن هل يعني هذا أن القرآن أو الدين لا علاقة له بالعلم؟ برأي هناك آليتان أساسيتان لربط الدين بالعلم:

1- الأخلاق العلمية:

برأيي أن الأهم اليوم هو الترويج لأخلاق البحث العلمي والتي نفقدها اليوم في مجتمعاتنا. وهي اخلاق لا تبتعد عن مكارم الأخلاق التي يحث عليها الاسلام عموماً. إن تبني هذه الأخلاق في المجتمعات العلمية الاسلامية هو ضرورة ملحة.

للأسف تنتشر السرقات الأدبية والعلمية في كثير من الأوساط العلمية العربية والاسلامية. إن نقص الميزانيات المخصصة للبحث العلمي ونقص المرافق والأجهزة والمعدات المساعدة على الدراسات العلمية، على أهميتها كسبب في تأخر البحث العلمي في مجتمعاتنا، إلا أنها ليست مبرراً على السرقة الأدبية التي يمارسها كثير من المحاضرين والأكادميين والطلاب. إن ممارسة كترجمة بعض المنشورات العلمية وإعادة نشرها بلغات أخرى مع نسبها للمترجم عوضاُ عن الباحث أمر سيء ويسيء للعلم وهو غش لايقبله الدين وهو غير مقبول من الطلاب فما بالك أن يقوم به بعض المدرسون. كما أن هناك ما تم إثارته حول ما تمارسه بعض الجامعات من شراء لعقول مسبقة الصنع بحيث تدفع جامعة ما لباحثين مشهورين أو ذوي انجازات جيدة في مجال معين مقابل أن يدرج هؤلاء العلماء اسم هذه الجامعة ضمن المطبوعات العلمية التي ينشرونها لتصبح محسوبة على هذه الجامعة فيرتفع تصنيفها العلمي عالمياً.

للأسف أيضاً لا توجد في كثير من المعاهد والجامعات في البلدان النامية أي معايير أو قوانين تحدد أخلاقيات البحث العلمي وتحمي الملكيات الفكرية. مثلاً أخلاقيات االممارسات الطبية والتجارب على الانسان والحيوان كما لاتوجد قوانين للتعامل مع بعض الممارسات العلمية اللاأخلاقية مثل الاحتيال أوتلفيق البيانات أوالانتحال وغيرها من المخالفات التي تشوب البحث والعمل العلمي. لكن هذا أيضاً ليس مبرراً فقد جعل الاسلام الغش محرماً ولا شك أن ما تم ذكره نوع من الغش والاحتيال الذي يرفضه الله والدين.

2- البحث العلمي عبادة:

كثير من نصوص الاسلام تحض على طلب العلم وتمهد الطريق أمام البحث العلمي والانطلاق في الآفاق والتفكّر في خلق الله والتدبّر في آياته الكونية. ولقد نجح المسلمون الأوئل في توظيف هذه الروح فبلغوا الآفاق باكتشافاتهم الجغرافية والعلمية باعتراف المستشرقين قبل المسلمين. أما اليوم، فللأسف تغرق كثير من بلاد المسلمين في الجهل والتخلف بل والأمية مخالفين لتعاليم الإسلام المحفّزة على طلب العلم والاكتشاف والاختراع، وليس للامر علاقة بالتدين أو اللاتدين فكثير من الحكومات العلمانية لم تقم بشيء أفضل مقارنة بالحكومات الدينية فليس هناك فروقات ملحوظة في هذا المجال بين مصر والسعودية أو بين سوريا والسودان أو بين المغرب والجزائر. وبعد تقدم وتفوق الغرب علينا بدأ يظهر ويروج ما يسمّى بـ "الإعجاز العلمي في القرآن" وإنما هو نوع من التعويض النفسي برأيي عن عجزنا عن المنافسة.

لا بد لنا نحن المسلمون بدلاً من إضاعة وقتنا في البحث عن معجزات علمية في النصوص المقدسة لنفاخر الغرب والمكتشفين بأنهم لم يأتو بجديد وأن كل ما أتو به موجود في القرآن. علينا أن نعمل بجد أكثر على الاهتمام بتعليم أبنائنا وتحفيز ملكات البحث والتفكير المنطقي عندهم. لقد أثبت المسلمون الأوائل تفوقهم العلمي وأن العلم والابداع ليس له علاقة بالإيمان فترجمو مؤلقات اليونان والرومان وزادوا عليها علماُ وتطوراً بعمل جاد ودؤوب فبرزوا بالعلوم الشرعية والقانونية والطبيعية والانسانية. ومن الجدير بالذكر أن العمل بجد هو جزء من الإيمان لا ينفصل عن الصوم والصلاة فالعمل عبادة. وتاريخ الاسلام مليء بالعلماء من أمثال ابن سينا والفارابي وابن رشد والغزالي والرازي والخوارزمي وجابر بن حيان والقائمة تطول.