Skip to main content

مشاهدات يابانية


في هذه التدوينة أحاول تجميع بعض مزايا المجتمع الياباني التي لمستها أثناء إقامتي في اليابان لمدة سبع سنوات ونيف والتي أرى أنها بشكل أو بآخر من أسباب تطور اليابان. هذه المشاهدات لعلها تعد عامة أمام تصرفهم في الكوارث. إن القوة الحقيقية المذهلة في هذا المجتمع كانت أبرز في مشاهداتي أثناء حادثة زلزال فوكوشيما. ولقد ذكرالاعلامي أحمد الشقيري في برنامجه خواطر كثيراً من ميزات هذا المجتمع لكن تبقى بعض التفاصيل الصغيرة أو الروتينية في الأوقات العادية ويبقى هناك الكثير ليقال مم لا يتسع له مقال وهذا بعضه:

  • الشخصية اليابانية مبنية على الالتزام والطاعة والنظام ضمن تراتبية اجتماعية وإدارية. هناك تراتبية معقدة ضمن الأسرة تنعكس على المجتمع ككل كما أن هناك تراتبيات ادارية ضمن العمل تنعكس على البناء الاداري للدولة بحيث يعرف كل شخص واجبه وحقوقه. الملفت للانتباه أن بناء هذه الشخصية يتم من السنوات الأولى للطفل في الروضة. مثلاً الأكل النوم الاستيقاظ اللعب وكل شيء ضمن توقيت محدد مضبوط بالثانية. يتم مثلاً إيقاظ الأطفال تحت سن الثالثة بسحب الفوتون (الفرشة أو السرير الأرضي التقليدي الذي ينام عليه اليابانيون) من تحتهم لاجبارهم على الاستيقاظ وليس بالصراخ أو الازعاج...

  • الرقابة المجتمعية: الفرد الياباني رقيب على نفسه وعلى المجتمع ولذلك لا تكاد ترى رجال الشرطة في الشوارع إلا في دوريات في سيارات وليس هناك شرطي مرور عند كل إشارة مرور فإشارة المرور تلغي وجود الشرطي. من المواقف التي حصلت معي ضمن هذا الاطار أنني في بداية إقامتي في اليابان كنت متوجها يوم الأحد لرمي القمامة. فصادفتني جارتنا الأربعينية على الدرج. في اليابان نظام فصل القمامة مطبق وكنت أعلم أن هناك أياماً مخصصة لكل نوع من القمامة ولكن كنت أظن أن السيارات تمر وتأخد ما هو مخصص لهذا اليوم وتترك ما في اليوم الآخر لوقته. حاولت أن تكلمني باليابانية فلم أفهم تماماً ما تعني. كانت تحاول أن تخبرني أنني لا يجب أن ألقي القمامة. قلت لها القمامة مفصولة وفعلاً كان معي كيس للبلاستيك وكيس للمعادن وكيس للقمامة المنزلية. المهم استمرت بالمحاولة لافهامي ولم أفهم لكنني قررت العودة بالقمامة إلى المنزل لأنها كانت مصرة أن هنالك شيء ما خطأ. بعد حوالي عشر دقائق أو ربع ساعة طرق الباب لأجدها قد قامت بطبع الجدول اليومي لإلقاء القمامة وباللغة الانكليزية فيوم الاثنين والخميس للقمامة المنزلية من بقايا الطعام وخلافه ويوم الثلاثاء للبلاستيك والأربعاء للمعادن وهكذا. أما يوم الاحد فعطلة ولذلك لا يجوز أن ألقي شيء ويجب أن ألقي كل نوع في يومه المحدد. لقد بذلت الجارة جهداً ووقتاً في البحث عن المعلومات باللغة الانكليزية وأعطتني إياها لأفهم بل وقامت بطباعة هذه المعلومات على حسابها. إن تطبيق النظام والحفاظ على البيئة والنظافة أمر يهتم به الفرد ولا يجبر عليه. وهذه هي النقطة الهامة الوعي وما سميته الرقابة المجتمعية.

  • تحمل وتداول المسؤولية: النشاطات الاجتماعية في اليابان تتبع كما كل شيء في اليابان نظاماً محدداً يضبطه نظام المجموعة. ومن الانشطة الاجتماعية ضمن مجموعات العمل الرحلة السنوية. جميع أفراد مجموعة العمل يترافقون في رحلة سنوية لتعميق العلاقات بينهم ويتم اختيار أحد أفراد المجموعة كقائد للرحلة. في المجموعة البحثية التي عملت معها أثتاء تحصيلي لشهادة الدكتوراة تألف فريق العمل من البروفيسور مشرف المختبر واستاذي، استاذ مساعد، طالبي دكتوراة (أنا أحدهما) ثلاثة طلاب ماجستير وطالبي سنة أخيرة بكالوريوس يحضران مشروع التخرج. كنت الاجنبي الوحيد واصطحبت زوجتي. وتم اختيار أحد طلاب الماجستير كقائد للرحلة. خلال الرحلة كان الكل يتبع القائد علماً أنه ليس الأكبر سناً أو قدراً لكنه ببساطة الأفضل لأنه ابن المنطقة التي كانت الرحلة فيها. طبعاً كاحترام لأستاذي وهو مدير المختبر طلبت اذنه لعدم مشاركتهم أحد المطاعم المختص بحساء الخنزير على أن أعود للمجموعة بعد الانتهاء فكان جوابه: لا أعرف اسأله (أي طالب الماجستير) فالطالب هو المسؤول. لحسن الحظ وافق :)
  • مقابلة العمل : مقابلات العمل في اليابان هي أمر روتيني ويتم بحرفية عالية وليس هدفه سوى اختيار الشخص الأنسب للمكان الأنسب. وتتم المقابلات عند التقدم للوظيفة أول مرة أو عند تجديد العقد. ولا يتعامل المقابل معك مهما علا شأنه إلا باحترام ويحاول دائماً أن يظهر نقاط قوتك لا ضعفك وأن يشعرك باهتمامه بكل ما تقول وحتى إن لم تكن مناسباً للعمل فسيكون الرفض محترماً ومشجعاً بأنه ترسل لك رسالة تخبرك أن التنافس كان شديداً بين متقدمين أكفاء وأنهم اختاروا من أحسوا أنه الأفضل رغم أنهم واثقون من أن مؤهلاتك ستحقق لك ربما مكاناً أفضل. آخر مقابلة للعمل كانت قبل مغادرتي اليابان للعمل في ماليزيا بعدة أشهر، كان ذلك عند تجديد عقدي في مركز البحوث البيئية. وقد قابلني رئيسي وهو شخص المفروض أنه يعرفني جيداً فقد عملت معه أكثر من سنة والمفروض أنه يعرف مسبقاً إن كنت أستحق التمديد أم لا. مع ذلك كان مع الرئيس ورقة قائمة بنود مرجعية (check list) وكان السؤال الأول هل توافق على اجراء المقابلة وهل أنت مهتم بتمديد العقد معنا؟ وكان هناك مجموعة من الأسئلة المختارة بعناية تتضمن أسئلة حوارية حول تقييمي لنفسي مع استعراض لخطتي للعام القادم والإنجازات وتحديد محاور للبحث ونسبة مئوية وأسئلة من نمط هل هناك ما يزعجك؟ وتطمينات مثل نريد أن نهنئك أنه لم ترد شكوى عنك. مناقشة لتفاصيل الراتب والتأكد هل عندك اعتراض على العقد السابق ثم عرض للعقد القادم (نفس الشروط) ومناقشة بنوده جميعاً للتأكد من الموافقة عليها. بعد مدة جاء رئيسي لمكتبي معتذراً على الازعاج ليعطيني نسختين من العقد ويطلب مني إرجاعه بعد قرائته وتوقيعه حسب فراغي وشغلي وبعد توقيعي يوقع هو ومن ثم رئيس المعهد العام ثم تعطى نسخة موقعة لي ويحتفظ شؤون الموظفين بنسخة. * ملاحظة: رئيسي كان روسياً لكنه عاش في اليابان فترة طويلة جداً وكان متبنياً جداً للثقافة اليابانية

  • قد لا يحترمني لكن بالتأكيد يحترم نفسه: عندما نقول انسان محترم فكلمة محترم هي اسم مفعول من احترم أي أن هذا الشخص يستحق الاحترام. بصراحة لم أفهم هذا المعنى إلا في اليابان فالاحترام في اليابان هو السمة الغالبة. من يرى اليابانيين من بعد يظن أنهم شعب يحترم كل الشعوب، كل الديانات والأقليات والاثنيات تعامل باحترام في اليابان ولا يساء لأحد. لكن بالاقتراب من اليابانيين اكتر تكتشف بعد فترة طويلة من الزمن أن الياباني يعتبر نفسه جنساً فريداً وأن بلده بلد فريد وهم ينظرون للأجانب جميعاً كجنس أقل من الجنس الياباني. لكن هذا لا يعني بحال من الأحوال تقليل احترام الآخرين أو الإساءة لهم بل إن احترام الآخرين هو دليل احترام الياباني لنفسه ولبلده. بكلام آخر هو "يظهر" الاحترام للآخرين لأن ذلك جزء من احترامه لنفسه.
  • هنالك تفاصيل صغيرة في الحياة تحمل في طياتها معان عميقة جداً. غالباً ما تمر هذه التفاصيل أمام أعين لاهية لا تعبأ بها لكن في احيان نادرة يقف المرء عند لحظات عابرة كتلك فتترك في نفسه اثرأ عميقاً ودرساً من دروس الحياة. هذا ما حصل معي مع موقف قد يراه كثيرون موقفاً عابراً سخيفاً لا يستحق الالتفات. بدأت القصة عندما قررنا أنا وبعض الاصدقاء حضور مسابقة الألعاب النارية التي تقام في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر تشرين الأول في مدينة تسوتشيورا tsuchiura في اليابان والتي هي مدينة صغيرة قريبا جداً من المدينة التي أقيم فيها في تسوكوبا. وهذه المسابقة تتنافس فيها كثير من الشركات المنتجة للألعاب النارية الاحترافية وطبعاً يفترش مئات وربما آلاف من الناس قادمون من عدة مدن يابانية مجرى نهر Sakuragawa للاستمتاع بمشاهدة هذا العرض المميز الممتد لحوالي ساعتين ونصف من السادسة وحتى الثامنة والنصف. ويتنشر بائعو الأطعمة الجوالون وخيمات الأكل على جانبي النهر في المكان لبيع المأكولات التقليدية. الملفت للانتباه هو التدفق المنتظم عند القدوم والمغادرة للسيارات والناس والمواصلات فلا تدافع ولا أصوات أبواق السيارات ولا تحرش ولا شجارات. كل شخص او مجموعة تجد مكانا مناسباً تجلس فيه بهدوء واحترام. والملفت للنظر أكثر أنه بعد انتهاء العرض وانفضاض الناس لا تكاد تجد أي بقايا أو مخلفات أو قمامة في النهر أو على العشب أو على الأرض كل شيء يعود كما كان وكأن شيئاً لم يكن. والسبب هو الرقابة المجتمعية والاحترام الفردي والاحساس بالمسؤولية. وهذا بيت القصيد في هذه الفقرة. فالقصة التي أريد الضوء عليها قصة بسيطة لكنها كما قلت تحمل في طياتها معان عميقة جداً (لي على الاقل): أثناء جلوسنا وأصدقائي للمشاهدة مر طفل صغير يأكل البوظة (المثلجات) ومعه كيس فيه بقايا أوراق التغليف وكاس فارغ اثتاء مروره ودون أن ينتبه سقط من الكيس المفتوح طرفه أو المثقوب ربما الكأس الفارغ وبقايا أوراق التغليف واستمر بمشيه دون أن ينتبه. مباشرة تحرك رجل أشيب ليلتقط ما سقط من الطفل ويضعه في كيس القمامة الذي يجمع به قمامته. لم يصرخ لم يتذمر لم يزعج الطفل ولم يزعجنا. فقط حافظ على احترامه لنفسه ولبلده. برأيي هذا الموقف يحمل معان عظيمة تلخص معاني الاحترام والشعور بالمسؤولية والرقابة المجتمعية.
  • العلمانية ليست كرهاً أو حرباً ضد التدين: اليابانيون يمكن اعتبارهم ملحدين بامتياز. فلو سألت يابانياً ما دينك سيقول لك شينتو أو بوذي لكنه في الحقيقة لا يكون متأكداً من ذلك ولا يهتم. طبعاً هناك مسيحيون قلة. قد ترى كثيرين يرتدون الصليب أو يتزينون به في ثيابهم أو سياراتهم مثلاً فتظنهم مسيحيين لكنهم في الحقيقة يرتدونه كجزء من الموضة أو الزينة لا أكثر ولا أقل. رغم إلحاد اليابانيين المعلن حتى أنهم يمنعون أي رمز ديني في العمل (كالحجاب) إلا أن التقاليد الدينية الأصل والأعاد الدينية وطقوس التبرك منتشرة جداً ويحرص اليابانيون عليها. فيدعون كاهنا لمباركة المنزل الجديد والسيارة الجديدة وطرد الأرواح الشريرة. ويحتفلون بالأعياد الدينية البوذية والشينتو وذلك جزء هام من حياتهم. أما العرس وطقوس الزواج فله نوعان تقليدي يتم في المعبد الياباني أو وغربي يكون فيه طقوس تشبه الزواج المسيحي في الكنيسة بل إنني كنت أظن كثيراً من قصور الأفراح كنائس لوضعهم الصليب لكنك تكتشف أن ذلك فقط دليل على طقوس الزواج الغربي. الياباني بشكل عام لا يحب مناقشة فكرة التدين والدين ولذلك تصعب دعوتهم لدين معين ومع ذلك تنشط جماعة شهود يهوه في اليابان ولها أتباع ليسو بالقليلين جداً من اليابانيين. الملفت في هذه الجماعة هو اهتمامها بدعوة الأجانب وربما المسلمين أكثر من غيرهم. وربما سبب ذلك عدم مقدرتهم على إقناع اليابانيين أو حتى الحديث معهم. أظن أن الدعاة من هذه الطائفة ينالون أموالاً مقابل استقطاب مؤمنين جدد. بالنسبة للاسلام فغالبية اليابانين المسلمين يسلمون بسبب الزواج والنساء المسلمات أشد التزاماً من الرجال فقد تجد يابانياً مسلماً لا يستطيع التخلي عن شرب الخمر الذي يعد من أهم الطقوس الاجتماعية في العمل عند اليابانيين. الخمر والتدخين والعلاقات الااجتماعية المفككة وادمان العمل حتى على حساب الأسرة من مساوئ المجتمع الياباني لكن من المهم أيضاً ذكر أن أخلاق اليابانيين قريبة جداً مم يجب أن تكون عليه أخلاق المسلمين وما يدعو إليه الاسلام الحق. ففي اليابان يبرز ما يمكن أن ندعوه الاسلام بلا اسلام. ولعل أكبر مثال على ما أقول جودة البضائع اليابانية وهو دليل الأمانة والاتقان في أبسط الأشياء وهو للأسف مم نفقده في كثير من بلاد المسلمين اليوم.

Comments

Popular posts from this blog

أصل ونسب آل السباعي في حمص

أصل ونسب آل السباعي في حمص في عدد من المواقع التي تتناول عوائل حمص وفي بعض المواقع التي تتناول ما يعرف بالأشراف تكرر ما يلي ولا أعلم مدى صحته حيث أنني لم أرى الوثيقة المذكورة: بتاريخ 24 جمادى الأول 1407 هـ 24/01/1987 أرسل الحاج الشيخ نسيب بن عبد الرحيم سعيد الجابي السباعي رسالة الى أسرة آل السباعي يوضح فيها الحسب والنسب وفيها : أن الجد الأعلى لعائلتنا السباعي في بلاد الشام هو سيدي السيد عبد القدوس السباعي ، وكان حضر الى حمص – سورية قبل ألف ومائة سنة تقريباً وقد ذكر بأنه قدم من بلدة ساقية الحمراء – الواقعه قرب مراكش في المغرب وانه يحمل مستنداً (شجرة) تفيد بأنه من أحفاد سيدنا إدريس بن سيدنا الحسن بن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين .وأن جدة سيدنا أدريس هي سيدتنا وسيدة نساء الجنه فاطمة الزهراء – إبنة سيدنا رسول الله محمد بن عبد الله الصداق الأمين وإن سيدي عبد القدوس ذكر بأن جده الأعلى سيدنا إدريس كان فر من الأمويين لعزمهم على إغتياله وأنه لجأ الى أمير البربر في المغرب وقد تزوج أبنة أمير البربر وأن الله سبحانه وتعالى قد بارك بذريته وإنتشر أفرادها في شمال أفريقيا و

لغات البرمجة الإحصائية SPSS و R و SAS و Python.

يدخل الإحصاء  في كثير من الاختصاصات العلمية كأداة من أهم أدوات البحث العلمي وتحليل البيانات بهدف استخلاص النتائج وإيجاد العلاقات الرياضية بين المتحولات. ولا بد أن أي طالب علم أو باحث قد سمع بما يسمى لغات البرمجة الاحصائية التي تستعمل لتطبيق القوانين الاحصائية على البيانات ومن أشهر هذه اللغات SAS, SPSS, R و Python.  تعتبر اللغتان  SAS و  SPSS الأكثر شهرة بين الباحثين لأن أغلب الجامعات تشتري رخص استخدام وتتيحها للباحثين مجاناً. المهتمون بالبرمجيات المجانية والبرمجيات مفتوحة المصدر يفضلون استخدام لغة R والتي تلاقي انتشاراً واسعاً هذه الأيام حتى أن البرمجيات التجارية تتيح تصدير البيانات والاتصال مع R و Python. SAS هو اختصار Statistical Analysis System أو نظام التحليل الاحصائي وهو برنامج طور في جامعة North  Carolina State University وأول ما طور كان بهدف تحيل البيانات الزراعية كبيرة الحجم ثم استقلت شركة SAS كأسم تجاري مستقل منذ 1976  SPSS هو اختصار لـ  Statistical Package for the Social Sciences المطور للعلوم الاجتماعية وهو أول لغة برمجة إحصائية للحواسب الشخصية وقد طور في